[go: up one dir, main page]

صمت البيانو… ورحل زياد !

  • مقال
  • 06:01 مساءً - 29 يوليو 2025
  • 1 صورة



كنا نظنه لا يموت، ببساطة لأنه كان يشبه الحقيقة: موجعة، مستمرة، وعنيدة. كيف يموت من قال: "العقل زينة، بس مش دايمًا"؟ كيف يغيب من واجه السلطة والمجتمع والدين والخوف، وسخر من الجميع دون أن يفقد احترام أحد؟ زياد، الطفل الأبدي في بيت الرحابنة، حمل إرثًا أثقل من الجبال، لكنه لم يقلّد، ولم يتكئ على اسم أمه فيروز، بل بنى اسمه بجراحه، بجنونه، بموسيقاه التي كانت تضجّ بالجاز، والشرق، والسياسة، والشتائم أحيانًا، والدموع غالبًا. كان نبيًّا دون دعوة، وعاشقًا دون قيد، ومتمردًا دون حاجة إلى سلاح. قال "أنا حرّ"، وعاش حرًا. قال "مش كافر"، وظلّ يسأل أسئلة الإيمان دون وجل. قال "شو هالأيام"، وعاش في قلب كل يومٍ منها. واليوم… في زمنٍ يخلو من المعنى، رحل صاحب المعنى الأعمق. نودّعك يا زياد، ولا نعرف كيف. نودّعك بكلماتك، أم بصمتك؟ نرثيك بضحكةٍ مريرة، أم ببكاء خافت؟ نضعك في الذاكرة، أم في القلب؟ كيف نُطفئ هذه الموسيقى التي لا تنطفئ؟ مات زياد… ففقدنا ضحكتنا الساخرة، وصوتنا المتمرّد، وموسيقانا التي كانت تأخذنا من شوارع الحرب إلى حلمٍ ورديّ في مقهى صغير، بين دخان سجائره ونكاتٍ تشبه الواقع أكثر من الواقع نفسه. رحل من كان يشبهنا أكثر من أنفسنا. رحل من كنا نختبئ خلف كلماته. رحل صاحب اللحن الجريء، والكلمة التي لا تموت. زياد لم يكن مجرد موسيقي أو شاعر أو ممثل. كان وجدانًا لجيلٍ كامل. جيل عاش الحرب وعاش الحلم. جيل تربّى على "عودك رنان"، و"إيه في أمل"، و"أنا مش كافر"، و"بما إنو". جيل وجد في موسيقاه وطنًا بديلًا حين ضاق الوطن، وفي سخريته مرآة مؤلمة لحقيقته.

لماذا نتألم من رحيل زياد؟ نتألم من فراق زياد الرحباني، لأن رحيله ليس مجرد فقدان لفنان، بل خسارة لجزءٍ من وعينا وهويتنا العاطفية والفكرية. نتألم لأنه كان صوتنا حين خرسنا. زياد لم يكن مجرد مؤلف موسيقي أو كاتب مسرحي، بل كان لسان جيلٍ كامل عاش تحت القهر والقمع والانقسام. قال ما لم نستطع قوله. تهكّم حيث خفنا، وبكى حيث خجلنا من دموعنا. حين نسمعه، نشعر أنه يعبّر عن داخلنا أكثر مما نفهمه نحن. نتألم لأننا كبرنا على موسيقاه. كبرنا ونحن نستمع إلى ألحانه تنساب في البيت، في الراديو، في الخلفية أثناء الأزمات الصغيرة في حياتنا اليومية. صوته وموسيقاه كانا الحنين، وكانا الطمأنينة، وكانا الغضب النبيل في زمن الخوف. نتألم لأنه لم يهادن في عالمٍ امتلأ بالنفاق والتنازلات. زياد ظلّ كما هو: لم يصفّق للسلطة، لم يتملّق طائفة، لم يخف من خسارة جمهور. تمسّك بحريته حتى الرمق الأخير، وهذا في حد ذاته موقف نادر يُبكينا حين نفقده. نتألم لأنه جعل من الفن ملجأً حين ضاقت بنا الحياة. لجأنا إلى مسرحياته، ضحكنا وبكينا مع "بالنسبة لبكرا شو؟"، و"فيلم أميركي طويل"، و"شي فاشل". كانت هذه العوالم الصغيرة مساحة نتنفّس فيها الحقيقة، نضحك من مرارتنا، ونؤمن أن هناك من يشعر مثلنا. ولأنه جمع التناقضات بصدق، زياد كان خليطًا من العبقرية والتعب، من النكتة والحزن، من الحنان والغضب. لم يكن قديسًا، لكنه لم يدّعِ ذلك. هذه الشفافية في التناقض جعلته إنسانًا قريبًا منا، تمامًا مثلنا… لكنه أقدر على التعبير. باختصار… نحن لا نبكي فقط زياد الرحباني، بل نبكي أنفسنا من خلاله. نبكي جيلًا آمن أن الفن يمكن أن يكون وطنًا، وأن السخرية يمكن أن تكون سلاحًا، وأن الحرية ليست ترفًا بل ضرورة. نبكي لأن زياد لم يكن فنانًا فقط، بل كان مرآتنا… ومرآتنا انكسرت.

زياد… ستظلّ في شوارع بيروت، في أصوات المطر على الزجاج، في وجه فيروز وهي تغني، في مقهى لا يزال يحتفظ بمقعدك، في شاب يشتم السياسة ويعزف البيانو. ستظلّ بيننا… لأنك ببساطة، لم تكن منا فقط، بل كنت نحن.

وداعًا أيها العبقري الحرّ. وداعًا زياد. أنت في قلوبنا لم تمت، لأن من علّمنا أن نعيش أحرارًا، لا يموت.



تعليقات